علامات على الطريق-أبو جهاد في ذكراه المتجددة!!

Admin عدد المساهمات : 382 تاريخ التسجيل : 14/07/2010

علامات على الطريق-أبو جهاد في ذكراه المتجددة!!
يحيى رباح

في هذه الأيام على وجه التحديد، تضيء في وجداني بشكل مبهر صورة ذلك الرجل بابتسامته المضيئة وملامحه الدقيقة، وشعره الأسود المرتب، وملابسه البسيطة الأنيقة ذات اللون العسكري دون إفراط، ذلك الرجل اسمه خليل الوزير "أبو جهاد".
أبو جهاد_ ودون أدنى مبالغة_ هو أحد أبرز رموز الكفاح المسلح في القرن العشرين، وعندما تستحضر الذاكرة الإنسانية أبرز رجالات وقادة الكفاح المسلح في العالم، من فيتنام إلى الجزائر، ومن الفلبين وكمبوديا وسيريلانكا إلى كوبا ونيكاراجوا وجنوب أفريقيا، فإن أسماء سوف تسطع على الفور مثل الجنرال جياب، وياسر عرفات، وفيدال كاسترو، وأبو جهاد، ونيلسون منديلا، والعربي ابن مهيدي، وديدوش مراد، وأحمد غرمول، وتشي جيفارا، وعشرات من رفاقهم نجوم زمانهم الذين أسسوا كل مدارس الكفاح المسلح، وأضافوا إلى هذا الإبداع الإنساني الخارق أبعاداً الأخرى.
أبو جهاد:
ابن مدينة غزة الذي كان يعيش مع أسرته في مدينة الرملة، انطبعت في ذاكرته صورة النكبة، وهذه صفة مشتركة لمعظم الرجال المؤسسين للثورة الفلسطينية المعاصرة، أمثال ياسر عرفات وخالد الحسن وأبو يوسف النجار والدكتور جورج حبش وصلاح خلف والدكتور وديع حداد، وبقية المؤسسين، فأبناء هذا الجيل رأوا النكبة الفلسطينية كما هي وليس كما تداولتها الحكايات بعد ذلك!!! كانوا جزءا من ذلك الخروج المأساوي، وعذابات المخيمات، وقسوة النكران من الأعداء والأشقاء على حد سواء!!! وكأن كل واحد منهم، من أبناء ذلك الجيل المؤسس، أقسم بينه وبين نفسه أن يواجه الخطيئة الكبرى خطيئة النكبة بطريقته الخاصة!!! بعضهم انخرط في الأحزاب القائمة آنذاك مثل أحزاب البعث والقوميين العرب والشيوعيين والاخوان المسلمين وحزب التحرير وغيرها، وكان ذلك ضرورياً للغاية، فمن خلال الانخراط في تلك الأحزاب القائمة آنذاك، اكتشفوا الحقيقة المذهلة بأن فلسطين لن تقوم من موتها، ولن تبعث من جديد إلا بندائها الفلسطيني الخالص على يد أبناء الجرح أنفسهم.
وكان أبو جهاد ما يزال طالباً في مدرسة فلسطين الثانوية في مدينة غزة، عندما فجر عبوته الناسفة الاولى في إحدى المستعمرات الإسرائيلية القريبة من الحدود في العام 1954، وأنا شخصياً أؤيد كل الباحثين والمؤرخين الذين اعتبروا عبوة أبو جهاد الصغيرة هي ميلاد الكفاح المسلح الفلسطيني، الذي أصبح مدرسة بحد ذاته، له ملامحه وتجاربه المميزة، وله أنصاره الذين تعمدوا في معسكراته ومواقعه على امتداد أربعة عقود.
أبو جهاد:
ذلك الشاب الهادئ جداً المسكون بالتفاصيل، يعتبر صاحب مدرسة متميزة في نقل الفكرة من الدماغ إلى الأصابع، من الخيال إلى الواقع، من الرغبة إلى التنفيذ!!! ويذكر الآلاف الذين عرفوا أبو جهاد أو حتى التقوا معه لقاء عابراً، كيف كان يكتشف فيهم أنهم قادرون على فعل شيء لم يكونوا يتوقعونه، وأنهم يمكن أن يكونوا مفيدين، وكانوا يجدون أنفسهم وقد أصبحوا مكلفين بمهمة ما مهما تكن صغيرة!!! من النادر أن يكون أبو جهاد قد اقتنع بأن شخصاً فلسطينياً لا يصلح لأن يقوم بشيء مفيد.
وكان أبو جهاد من أبرز رجالات فلسفة المحاولة المستمرة، محاولة دون كلل أو ملل، ويذكر الذين كانوا معه بالجزائر في بداية الستينات، أنه من كثرة محاولاته لقاء الرئيس أحمد بن بلا، أن حرس القصر الجمهوري وموظفيه اعتادوا عليه لدرجة تعاملوا معه كأنه أحد العاملين في القصر الجمهوري، إلى أن تم لقاؤه مع الرئيس الذي وجد أمامه شابا يتحدث إليه ببساطة ويسر عن برنامج يثير الذهول، برنامج إطلاق حركة فتح رصاصة الثورة الفلسطينية المعاصرة.
وأذكر أنني كنت مع أبو جهاد في أحد بساتين البرتقال في منطقة صور في عام 1978 بعد الاجتياح العسكري الذي سمي باسم "عملية الليطاني"، وجاء وفد صحفي كبير من محطات التلفزة الأميركية، وكان في اعتقادهم أن الرجل الذي سيلتقونه، أحد أبرز زعماء الكفاح المسلح في العالم، سيكون رجلاً ضخماً، ذا لحية كثيفة، وملامح مكفهرة، وقد فوجئوا عندما وجدوا رجلاً ناعماً، بلحية حليقة، وشعر مرتب، وابتسامة مشرقة.
أبو جهاد:
الذي امتدت صلاته بأنواع متعددة من البشر على امتداد الأرض، لدرجة أن ليس هناك يد على امتداد أكثر من ربع قرن ارتفعت بإشارة الحرية في العالم الثالث، إلا وكانت يد أبو جهاد تسندها على نحو ما، وكان يعرف الصعوبات الخارقة التي يواجهها الكفاح الفلسطيني المسلح ضد إسرائيل، واعتقد أنه حين التقى مع الجنرال جياب بصحبة الرئيس عرفات، قال لهم الجنرال الشهير الذي كان يقاتل الأميركيين في فيتنام:
نحن نتابع تجربتكم العظيمة ونتعلم منكم.
فرد عليه الرئيس عرفات قائلاً:
هذا تواضع منكم وأنتم تقودون أكبر ثورة في الدنيا.
فرد الجنرال جياب على الفور:
هذه حقيقة وليست مجاملة، فأنتم تقاتلون في منطقة بالغة الحساسية، وسط حقول البترول، ثم أنتم ليس عندكم هانوي تساندكم، وليس معكم الصين والاتحاد السوفيتي يقفون معكم بالمطلق كما يقفون معنا.
وكان أبو جهاد يعلم أن نموذج كفاحه المسلح الذي يخوضه صعب جداً، لأن الثورة نفسها هي ثورة بساط الريح، لا يوجد لها مكان آمن، وكانت دكتاتورية الجغرافيا تضغط بقسوة، وكان الثمن باهظاً للغاية في كثير من الأحيان، وكان القرار الوطني المستقل في مثل هذه الحالة ليس مجرد كلمات، إنه مسؤولية ضخمة وعبء ثقيل يهد رواسي الجبال، ولم يكن هناك وقت للبكاء أو الشكوى هكذا كان أبو جهاد يردد في أعقاب كل معركة سواء كانت منتصرة أو فادحة، كان يقول دعونا نستعد للجولة القادمة.
رجل من هذا الطراز،
رجل بحجم هذا الدور الكبير،
رجل بهذا الامتداد المذهل،
كان يعرف أنه ملاحق من الإسرائيليين وحلفائهم وعملائهم، على مدار اليوم والساعة والدقيقة بل والثانية أيضاً!!! وكان هذا يستدعي نمطاً من الحياة لا يتحمله إلا أولو الصبر من الرجال!!! وكان قد جاء وقت على أبو جهاد لم تكن فيه الترتيبات الأمنية من حوله على ما يرام، وذات يوم، كنت واحداً من الذين طلب منهم الرئيس عرفات أن يتحدثوا مع أبو جهاد لكي يهتم أكثر بالترتيبات الأمنية المتعلقة بشخصه، ومازلت أذكر بعضا من الحوار الذي دار بيني وبينه حين ذهبت إليه في بيته في ضاحية سيدي أبو سعيد في تونس، قال لي بهدوء وابتسامته المشرقة تضيء وجهه ببياض اليقين :
إنني ملاحق منذ عقود، ماذا بوسعي أن أفعل أكثر، كل يوم أفلت فيه من الموت اعتبره معجزة خارقة.
وأتذكر الآن، أن إسرائيل حين اغتالت أبو جهاد، فإنها قامت بتنفيذ بانوراما عسكرية كاملة، أقرب إلى غزو واجتياح دولة بكاملها وليس اغتيال رجل وحيد!!!
أبو جهاد مزروع في الذاكرة، إنه يستحق ذلك بجدارة، فلقد استطاع أن يفي بقسمه لنفسه، وبوعده لشعبه، وأن يجعل من اسمه عنواناً لزمن بأكمله.
ليرحمه الله، وطابت ذكراه.

» علامات مرض القلب وصحته